في ندوة علميّة استضافت الباحثتين في التصوّف رشا روابح وشفيقة وعيـل
مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة يناقش اللغـة الصوفيـة
ويُخرج عفيف الدين التلمساني من عزلتـه
·
الدكتورة رشا روابح: عفيف الدين التلمساني ظاهرة
عرفانية، لا بدّ أن نعيده إلى جزائريّته، ويؤسفني أنّ كلّ شروحه حُقّقت من غير
الجزائريين، وأنّه لا توجد أيّ مبادرة للاعتناء بتراثه.
·
الدكتورة شفيقة وعيل: ما نراه في الساحة، خاصّة النقدية،
حول الصّوفية في النّص الأدبي هو خبط
عشواء، والمسألة أكبر من الحكم على استعمال مصطلحات وأساليب التصوّف.
·
رئيس المخبر الدكتور مسعود عبد الوهاب: العمل على الخطاب الصوفي دراسةً وتشريحًا يتطلّب
التزوّد بآليات قرائية وبحثية قد لا تكون متاحة للجميع لاعتبارات عدّة.
·
الدكتورة شفيقة وعيل: الإشكالية الحقيقيّة في التعاطي مع النّص الصوفي هو في فهم علاقة اللغة
بالتجربة.
·
الدكتورة رشا روابح: من يقرأ النصوص الصّوفية بذهنية
فلسفية أو خلفية فقهية مستحيل أن يصل إلى مراد المؤلّف، وأقصى ما يصل إليه هو
تكفيره أو اتهامه بالجنون.
·
الدكتورة رشا روابح: الاهتمام المتزايد بالتصوّف
وبالمدرسة الأكبرية بشكل خاص يعود إلى عدة أسباب على رأسها الاهتمام الفكري
المعاصر بعالم اللغة والإشارات، وأيضا بالخطاب الإنساني الكوني وكذا البعد المعنوي
والروحي في الإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- في عدده الثاني الذي خصّصه للتصوّف ونظّمه بالتعاون مع نيابة العمادة
للبحث العلمي بالكلية والمرصد الولائي للثقافة والتاريخ والتنمية المستدامة
والمكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية جمال بن ساعد بالجلفة، استضاف مقهى المخبر
التابع لمخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة التابع لكلية الآداب بجامعة
زيان عاشور بالجلفة الباحثتين في التصوّف الدكتورتين رشا روابح أستاذة محاضرة
بجامعة الجزائر وصاحبة مشاركات دولية في مؤسسات بحثية، وشفيقة وعيل خريجة الجامعة
الأميركية في بيروت وعضو فريق بحثي بجامعة نيويورك أبو ظبي.
في كلمته الافتتاحية قال منسّق المخبر الدكتور الطيّب بلعدل أنّ هذه الندوة هي رحلة عجيبة يختلط فيها الماضي بالحاضر والظاهر بالغائب، وتحاول أن تسترجع أولئك الأعلام، كالإمام ابن العربي الحاتمي الأكبر، والإمام ابن الفارض، ونحاول أن نعرّج من خلالها في الفتوحات وفي كلّ المتون الصوفية المتاحة لكلّ واحد منّا، وفي كلمته الترحيبية يرى رئيس المخبر وعميد كلية الآداب مسعود عبد الوهاب على أنّ العمل على الخطاب الصوفي دراسةً وتشريحًا يتطلّب التزوّد بآليات قرائية وبحثية قد لا تكون متاحة للجميع لاعتبارات عدّة متعلقة ببنية النّص الصوفي المتراوحة دلالته بين ثنائية الباطن والوجود، إضافة إلى بنيته المزدوجة في تمظهراته الدينية والأدبية، وأشار إلى إشكالية اللغة التي تشكّل الجانب العويص فيه، فبرأيه أنّ أكثر ما يثير الخطاب الصوفي من جدل هو جدل اللغة التي تمتاز بخصوصية منفردة.
الباحثة شفيقة وعيل في محاضرتها "أنطولوجيا اللغة الصوفية: لغة
التجربة أم تجربة اللغة"، تناولت اللغة والتجربة في التصوّف، فالإشكالية
الحقيقية برأيها في التعاطي مع النصّ الصوفي هو في فهم علاقة اللغة بالتجربة،
وتتساءل عن اللغة التي تبدو مكثّفة وغامضة، فهل هي معنى محاولة لجلب الانتباه، أو محاولة
لقول شيء لا يُقال، محاولة للتميّز خارج النصّ، الخروج عن سلطة المجتمع، من سلطة
اللغة أم ماذا تحديدا؟، وإذا كان الأمر كذلك فهل الصّوفي يجرّب في اللغة، أم
يتحدّث بلغة التجربة المتعالية، وكيف يمكن أن نميّز بين تجربة تقول بلغتها، وبين
نصّ يحاول أن يجرّب باللغة، وهو ما نجده منتشرًا في كثير من النصوص، خاصّة الأدبية
ومنها الشعرية خاصّةً، والتي تحاول أن تتماهى مع التجربة الصوفية، فتستعمل
مصطلحاتها وأساليبها وبعض أفكارها، وأسماء أعلامها، وهي ترى أنّ هناك سهولة كبيرة
واسترسال في وصف أي نصّ بالنصّ الصوفي، فتتساءل، إلى أيّ مدى يكون هذا الوصف
دقيقا، وكيف يمكن أن نميّز بين تجربة صوفية وبين نصّ يحاول أن يجرّب باستعمال لغة
التصوّف؟
تقول أنّ الذي يستدعي سؤال اللغة والتصوّف هو ذلك السّعي
إلى ابتكار نموذج جديد للكتابة الشعرية، والأدبية على العموم، كتابة تحاول أن تكون
صوفية بشكل ما، وطرح نقديّ يحاول أن يصوّف أيّ نصّ يستعمل استعراضَ مصطلحاتٍ
وأساليب وأفكار صوفيّة، إمّا بغير قصد بسبب التراكم، أو بقصد الدخول فيما يسمى
بموجة التصوّف بوصفه ميراثا عالميا، وتعود الدكتورة إلى سيرورة الأدب العربي
وتتساءل "متى وصلنا إلى الحدّ الذي صرنا نقول فيه عن أيّ نصّ هذا نصّ صوفي؟،
هل كانت النصوص الصوفية القديمة تلتبس مع النصوص الشعرية أم لا؟"
عرضت الدكتورة المتنبي كنموذج بوصفه علمًا كبيرا ومدخلًا
للتصور للقضية، فتقول أنّ المتنبي استعمل عبارات الصوفية وأساليبهم ولغتهم لكن لم
يقل أحدٌ من النقّاد أن المتنبي صوفيّ، بل قالوا إنّه استعار من الصّوفية أساليبهم
ولغتهم في استدلالٍ على قدرته على التصرّف في اللغة، ما الذي جعل النقّاد لا
يقولون عنه أنّه صوفيّ ولا عن تجربته صوفيّة، وتضيف "سيرة الرجل لم تدلّ على
أنّه صوفي، ثمّ إن كان هو ليس صوفيا لماذا لم يُحكم على نصوصه أنّها صوفية، لأن
استعارات المصطلحات والأساليب ببساطة فيما يبدو لم تكن تدلّ على صوفيّة النّص،
الذي كان يدلّ على صوفية النصّ هو التجربة، وليست اللغة التي تدجج في النّص، ولأنّ
الصورة وحدها دون فكرة لا تنتج نصّا صوفيّا.
عن المتنبي واستعماله أسلوب المتصوّفة فتقول "إنها
مناولات لغوية فنّية، وليست تجربة عرفانية"، وأنّ الآن الحداثة الشّعرية فتحت
بالمجاز واسعا، وأن هذا منطلق من الجدلية بين التجربة الأدبية والتصوّف، خاصّة
الشعر، لأن كليهما يقومان على أنطولوجيا المجاز، وهو الخط الرابط بين الإثنين.
تعود شفيقة وعيل إلى العلاقة بين التفكير واللغة، العلاقة التي أثارت جدلا
فلسفيا، لكن السؤال الفعلي برأيها الذي نطرح اليوم هو عن فعل الإدراك لنفسه،
فالغاية هي تلمّس اللغة بما هي تجربة إدراك للعالم لدى الصوفية وكيفية تمييز علاقة
لغتهم بالتجربة المتعالية، تقول "كون اللغة نظاما تمثّليا يعني أنها تخلق
بدائل لغوية عن العالم الخارجي، هناك عالمان، عالم في الخارج تعبّر عنه لغة هي
نتاج تفاعل مسبق للإنسان بوصفه الفردي مع المجاز، وعالم مُسقط في أذهان المتكلّمين
نفس اللغة بوصفهم مجتمعا لغويا"، وهذا يخالف الرؤية التي يطرحها هايدغر الذي
يصف هذا الطرح بالتقليدي، ويقول أنّه لا يكون الكلام سوى الأداة التي يستخدمها
الإنسان للتعبير عن اعتمال النفس ورؤية العالم، لكن الكلام برأيه هو أكثر من ذلك،
هو متكلّم، لأن اللغة كينونة في ذاتها، وتتكلّم به، أيّ بالإنسان، فاللغة ليست
أداة، هي كائن، يقول من خلال اكتشاف الإنسان للعالم، فكلّ منّا هو مسهم لحدّ ما في
اكتشاف العالم وفي صنع هذه اللغة التي هي تتجلى فينا جميعا"، وفي هذا السياق تستحضر ما قاله هايدغر
"ينبغي الكفّ عن اعتبار الألفاظ أشياء قائمة في الأعيان وإعادة الألفاظ إلى
الوجدانيّ الذي تصدر عنه"، وتتساءل "إذا كان المجازُ حالة أنطولوجية في
اللغة والتجربة، كيف نميّز بين مجاز من التجربة الصوفية ومجاز ينهل من تجربة غير
صوفية، مادام الرابط بين التصوّف وغيره هو المجاز، وترى بأنّ ما نراه في الساحة، خاصة
النقدية، هو نوع من خبط العشواء، وأنّ كلّ نصّ فيه جبّة الحلّاج أو بئر سيدنا يوسف
عليه السّلام، أو أيّ معنى أو اسم أو رمز صوفيّ، يقال ما هذه الصوفية التي في هذا
النّص!!، وتقول أنّ المسألة أكبر من
الحكم على استعمال المصطلح، تضيف "الذي أراه وبخصوص المتنبي، أنّ الأمر ينسحب
على أيّ نصّ أدبيّ استعار التصوّف وأساليبه ولم يستند إلى رؤية الوجود،... ابن
عربي نقول أنّه متصوّف لأنّ له رؤية كاملة، نحكم على ابن العربي بأنه صوفي لأنّ له
تاريخا صوفيّا، له رؤية مكتملة صوفية، لأنّه أسّس لغةً تخصّه هو"، فالأمر إذن
يحتاج إلى دائرة تصوّف، رؤية دينية أنطولوجية تعبق من التصوّف، وتنشئ لغتها
الخاصة.
ترى بأنّه من حيث التصور
الأنطولوجي، الألفاظ التي يستعملها الصوفي إلى لغة الحسّ لكن بحمولة أنطولوجية
مختلفة، كأن يقول شيئا ولا يعني ما يعرفه الناس عنه، فالمعنى بحدّ ذاته عندهم ذو
حمولة أنطولوجية غير متعيّنة حسيّا، لكن المتعيّن هو المدلول الموجود في الحسّ
الذي ربطنا اللفظة به، واتفقنا على تسميته بها في نطاق سلطة الجماعة، وتقول "مادام
صوفيّا فينبغي أن تقطع العلاقة بين الحسّي وبين ما عنده وأن تقول سأبحث عن المعنى
الذي يريده لأنّه يستحيل أن يريد هذا المعنى، فنبحث عن الرسالة التي يقصدها"،
بمعنى أنّ الألفاظ تمتلك حقيقة أخرى في معناها الصوفي وبذلك تصبح مجازية في معناها
الحسّي.
تختم الباحثة شفيقة وعيل مداخلتها بالقول"على النّص أن يكون على الأسس الذي ذكرَتها، وهي النظر في المسار السلوكي على الصوفي المبدع، واستخراج رؤية وجود كليّة تنبثق من التصوّف، والبحث عن حركية المجاز بين مستويين صعودا ونزولًا، حتى نستطيع تمييز نوعية التجربة من تجربة أخرى".
أمّا المداخلة الثانية للدكتورة رشا روابح "عارف
في مرآة عارف، عفيف الدين التلمساني قارئًا لابن العربي"، تقول رشا أنّ
الدافع الأساسي لاختيار هذا الموضوع هو محاولة إخراج عفيف الدين التلمساني من
عزلته التي طال أمدها في المجال التداولي العرفاني الجزائري، وإرجاعه إلى أرضه،
فقد تلقّفه القوم من هنا ومن هناك وزهد فيه أهله من أهل الجزائر، فهو شخصية
جزائرية تتميّز باستقلالية فكرية معرفية متفرّدة رغم تتلمذه المباشر للشيخ الأكبر
ومجالسة مجلسه.
ترى رشا بأنّ البحث العرفاني يحظى اليوم
بحيّز كبير من اهتمامات الباحثين، على اختلاف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم، وأنّ محي
الدين بن العربي يتبوّأ الصدارة في هذا الاهتمام وهذا راجع لما قدّمه لهذا الحقل كمّا
وكيفًا، حتى صار اليوم يشكل تخصصا قائمًا بذاته، فقد أُسست حول تراثه مؤسسات
ومراكز أبحاث وجمعيات علمية تعتني بتراثه وتقام حوله سنويّا مؤتمرات علمية دولية، وأنّ
هذه المكانة ليست جديدة وقد لازمته منذ حياته، لدرجة ابن تيمية رحمه الله يقسم
تاريخ التصوّف إلى التصوّف ما قبل ابن عربي والتصوف ما بعد ابن عربي، ونجده يتقبّل
إلى حدّ بعيد مقولات الصوفية للمرحلة الأولى ولا يكاد يكفّر صوفيّا باستثناء
الحلّاج ومن كان على شاكلته، في حين نجده يكفّر بالجملة متصوّفة المرحلة الثانية
وعلى رأسهم ابن سبعين وابن العربي وابن الفارض واستهدف بشكل خاص التلمساني، كما
ترى أنّ هذا الاهتمام المتزايد الذي نشاهده اليوم بالتصوّف عموما وبالمدرسة
الأكبرية بشكل خاص يعود إلى عدة أسباب على رأسها الاهتمام الفكري المعاصر بعالم
اللغة والإشارات، وأيضا بالخطاب الإنساني الكوني وكذا البعد المعنوي والروحي في
الإنسان، ويحظى ابن العربي بالاهتمام الأكبر كونه يختزل في تجربته الفكر العرفاني
التي جسّدت مضامينه أهمّ ما تنشده الإنسانية اليوم ويشمل اهتمامها موضوع وحدة
الإنسان، وحدة الدين، والاعتراف بالآخر وتجاوز فكرة الخلاص الفردي وحقوق المرأة
ومركزية الإنسان وغيرها من القضايا المعاصرة التي تمخّضت عن حركة الحداثة، والتي
وجدت الكثير من الإجابات التي يمكن وصفها إلى حدّ ما أنّها حاسمة في مجال التداول العرفاني، مع الكثير من التحفظ لأن هناك بعض
القراءات التي تقرأ النصوص العرفانية مجتثة من سياقاتها أو بعبارة أخرى تريد أن
تفصل بين الحقيقة والشريعة، وبين الظاهر والباطن وهذا ما أدّى إلى ظهور ما يسمّى
بموضة التصوّف الفارغة من التشرّخ، وهذا برأيها أيضا ورم آخر لصق بالتصوّف يتطلّب
استئصاله.
تمحورت إشكالية مداخلتها بسؤال
أساسي مفاده "هل قراءة التلمساني لابن العربي قراءة بعين ابن العربي نفسه،
يعني على طريقة أصحاب المناقب وكتابة المريدين عن شيوخهم، أم أنّها قراءة لابن
العربي بعين التلمساني؟"، تقول رشا بأنّ ما يجيبنا عن هذا السؤال هو قراءة
متأنّية لشرح فصوص الحكم بشكل خاص وكذلك الاطلاع على منهجية التلمساني عموما.
المحور الأول للمداخلة عرضته
الدكتورة كنبذة حول الشيخ عفيف الدين التلمساني لأنه برأيها غير معروف مقارنة
بالشيخ الأكبر، حيث ذكرت أهم محطات حياته بين تنقله إلى دمشق وآسيا الصغرى وبلاد
الروم وخلوته فيها، وكذلك حضوره مجلس سماع كتاب الفتوحات المكية لابن العربي،
والمحور الثاني قراءة التلمساني لابن العربي ومميزاتها ومميّزات مذهبه بشكل عام.
يعتبر التلمساني أنّ كلّ من ابن
العربي والقونوي شيخان له، وقد بيّن القونوي مقدار الحظوة التي خصّ بها التلمساني
من بين تلاميذه، حيث أوصى بكتبه كلّها له، تقول رشا "يلحظ قارئ العفيف أنّ
النفري هو معلّمه الحقيقي، وإن لم يتمّ بينهما اللقاء غير أن نفَس المواقف النفرية
سارٍ في جميع مؤلّفات عفيف الدين، فقد شكّل كتاب المواقف أساس المنظومة المعرفية
والعرفانية للعفيف، حيث كان كثير الإحالة إلى مواقف النفري في مؤلفاته، بل كان
يرجح كلام النفري على كلام ابن العربي وهو يشرح كلام ابن العربي في الفصوص، وكان
يرى بأنّ ابن العربي هو خاتم الأولياء، وأن النفري مثل أويس القرني لم يعرّف الله
الناس به كثيرا وأن كليهما كنز يُدفع بهما البلايا عن عباده".
كان العفيف بارعا في شرح أدقّ
المتون العرفانية من طراز المواقف للنفري وفصوص الحكم لابن العربي وغيرها، له أيضا
رسالة في علم العروض وله ديوان شعري وهو من أكثر كتبه حضوةً بالاهتمام إلى جانب
شرحه لمنازل السائرين، حيث لقي ديوانه إعجابا وتقديرا أدبيا حتى من أشرس أعدائه،
حيث يقول عنه الذّهبي "إنّه أحد زنادقة الصوفية وأمّا شعره ففي الذروة العليا
من حيث البلاغة والبيان لا من حيث الإلحاد"، ويشبّه ابن تيمية ديوانه بلحم
خنزير في طبق صيني.
وأشارت الدكتوره رشا إلى الكتابين
الذين حُقِّقا للعفيف مؤخّرا في اسطنبول، كتاب "معاني الأسماء الإلهية"
وكتاب "شرح الفاتحة وبعض سور البقرة"، وشرحه هذا كان بداية لمشروع
تفسيري عرفاني ضخم لم يكتمل.
بالنسبة لمعارضيه، تقول رشا أنّ
عفيف الدين التلمساني اُبتلي بالإنكار، شأنه شأن شيخه بن العربي، لكن بصورة أكبر
لأنّه كانت له جرعة زائدة في الجرأة العرفانية، وفي طرح المسائل، وأوّل من تزعّم
حملة الإنكار على عفيف التلمساني هو ابن تيمية، ثمّ كلّ من كفّر التلمساني أسّس
كلامه على رأي ابن تيمية.
وعن مذهبه العرفاني وشرحه للفصوص
تقول الدكتورة رشا روابح بأنّ التلمساني يتميّز بأصالة الطرح واستقلالية الفكر،
حيث لم يكن أثناء شرحه للمتون العرفانية التي تناولها مجرد ناقل وشارح لمصطلحات
صوفية بل كان ناقدا متمرّسا، وهذا ما نلمسه في شرحه للفصوص، حيث لم يكن يشرح كلّ
الكتاب كغيره من الشُرح، اقتصر على شرح المطالب الغامضة في زمانه، وعلى المواضيع
التي فيها رأي مخالف لرأي شيخه الأكبر، وقد أشار في شرحه بأنّه سيواصل شرح بعض
المسائل والأمور قولا لا كتابةً حتى لا يُساء الأدب مع شيخه ابن العربي ومراعاة
لمقامه، وهذا من تجليات الأدب الذي كان يتميّز به التلمساني، وتضيف أنّه أوّل من
طرح فكرة الأسفار الأربعة في السير والسلوك، هذه الفكرة التي اشتهر بها فيما بعد
الملا صدرا صدر المتألهين الشيرازي الذي ألّف كتابه المعروف "الأسفار الأربعة
في الحكمة المتعالية"، وأنّها فكرة تلمسانية وليست شيرازية كما يروّج لها.
عن مذهب العفيف أيضا تقول رشا أنّه
يقوم أساسا على مقولة الوحدة المطلقة وهذه الفكرة التي يُنتقَد عليها كثيرا، ففي
كتابه مثلا "شرح الفاتحة" غالبا ما يتناول مسائل الوحدة والتعدّد في
إطار الأسماء الإلهية، فهو يرى أن الوحدة المطلقة هي الأصل، لكن القرآن والسنّة
بُنيا على أساس التعدّد مراعاة لعقول الناس، لأنّ الوحدة المطلقة تُعجز مدارك أغلب
الناس، وقوله هذا مؤسّس على فكرة أخرى أيضا تميّز بها عفيف التلمساني وهي أنّ
رؤيته ثلاثية للعرفان، علم وعرفان وتحقيق، وهي أطوار معرفية يقوم على أساسها تصنيف
المسائل والخطابات العرفانية، وبسبب هذه الثلاثية اعتبر ابن تيمية ابن العربي أقرب
محقّقي الصوفية للإسلام، واعتبر التلمساني أبعدهم.
العفيف يعتقد في نظريته التي
تتأسّس على اسم الله الهادي، يصرّح بها في سياق تفسيره لقوله تعالى "اهدنا
الصراط المستقيم"، أنّ كلّ الأسماء الإلهية تدور حول اسم الهادي، وأن الهداية
تجري في كلّ شيء، وأن جميع أفعال الإنسان ترتكز على اسم من الأسماء الإلهية، هذه
الرؤية المؤسّسة على مبدئين عرفانيين أساسيين لدى التلمساني ونجدهما أيضا عند
غيره، لدى المدرسة الأكبرية بشكل خاص، ويصرح بها كذلك الأمير عبد القادر في
مواقفه، وهي كلّ شيء في كلّ شيء، وأنّ كل اسم في كلّ اسم، وحدة مطلقة.
ما يميّز التلمساني حسب رأي الدكتورة رشا أنّه مع احترامه وتبجيله الكبير لشيخه ابن العربي غير أنّه لم يكن منبهرا به، ولم يقدّسه كما نلمح ذلك في رواد المدرسة الأكبرية، فقد كان موضوعيّا جدّا في تعامله مع شيخه، بل وكثيرا ما يعترض عليه، لكن بمنتهى الأدب اللفظي والمنهجي، فأحيانا يترك بعض المطالب الغامضة في الفصوص بدون توضيح ويقول "ولست أقول إن هذا الفصل يستغني عن البيان لكنّي لا أبيّنه مشافهةً أدبًا مع شيخي رضي الله عنه"، كما يعتقد العفيف على خلاف شيخه الأكبر وأتباع مدرسته بتعدّد ختم الأولياء، كما يختلف مع المدرسة الأكبرية في القول بوجود مرتبة وجودية متعلقة بالأعيان الثابتة، المرتبة البرزخية بين الوجود والعدم، عفيف الدين يفترض أنّه ليس بين الوجود والعدم واسطة، والعفيف وإن خالف الشيخ في بعض المواضع لكنّه قد وجّه كلام الشيخ وهذا لأدبه، فيقول "وهو عندي معذور، لأن أهل الفهم كلّهم عجزوا عن إدراكه".
تختم روابح مداخلتها بالقول
"عفيف الدين التلمساني ظاهرة عرفانية لا بدّ أن نعيده إلى جزائريته، إلى
أصله، يفترض أن تُكوّن فرق بحث حول عفيف الدين لأنه ليس مجرّد عارف، هو ينسب إلى
المدرسة الأكبرية لكن له مذهب خاص، يمكن أن يكوّن مدرسة عرفانية مستقلة خاصّة به،
والمؤسف أن لغته الرمزية والإشارية أبقت تجربته حبيسة مجال تداولي نخبوي ضيّق، ولم
تخرج من هذا المجال، وتعذّر نشرها في نطاق واسع".