الأحد، 29 مايو 2022

في ندوة علميّة استضافت الباحثتين في التصوّف رشا روابح وشفيقة وعيل.. مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة يناقش اللغة الصوفية ويُخرج عفيف الدين التلمساني من عزلته

           في ندوة علميّة استضافت الباحثتين في التصوّف رشا روابح وشفيقة وعيـل

                مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة يناقش اللغـة الصوفيـة

     ويُخرج عفيف الدين التلمساني من عزلتـه

  

·     منير سعدي


·        الدكتورة رشا روابح: عفيف الدين التلمساني ظاهرة عرفانية، لا بدّ أن نعيده إلى جزائريّته، ويؤسفني أنّ كلّ شروحه حُقّقت من غير الجزائريين، وأنّه لا توجد أيّ مبادرة للاعتناء بتراثه.

·        الدكتورة شفيقة وعيل: ما نراه في الساحة، خاصّة النقدية، حول الصّوفية  في النّص الأدبي هو خبط عشواء، والمسألة أكبر من الحكم على استعمال مصطلحات وأساليب التصوّف.

·        رئيس المخبر الدكتور مسعود عبد الوهاب: العمل على الخطاب الصوفي دراسةً وتشريحًا يتطلّب التزوّد بآليات قرائية وبحثية قد لا تكون متاحة للجميع لاعتبارات عدّة.

·        الدكتورة شفيقة وعيل: الإشكالية الحقيقيّة في التعاطي مع النّص الصوفي هو في فهم علاقة اللغة بالتجربة.

·        الدكتورة رشا روابح: من يقرأ النصوص الصّوفية بذهنية فلسفية أو خلفية فقهية مستحيل أن يصل إلى مراد المؤلّف، وأقصى ما يصل إليه هو تكفيره أو اتهامه بالجنون.

·        الدكتورة رشا روابح: الاهتمام المتزايد بالتصوّف وبالمدرسة الأكبرية بشكل خاص يعود إلى عدة أسباب على رأسها الاهتمام الفكري المعاصر بعالم اللغة والإشارات، وأيضا بالخطاب الإنساني الكوني وكذا البعد المعنوي والروحي في الإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



- في عدده الثاني الذي خصّصه للتصوّف ونظّمه بالتعاون مع نيابة العمادة للبحث العلمي بالكلية والمرصد الولائي للثقافة والتاريخ والتنمية المستدامة والمكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية جمال بن ساعد بالجلفة، استضاف مقهى المخبر التابع لمخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة التابع
 لكلية الآداب بجامعة زيان عاشور بالجلفة الباحثتين في التصوّف الدكتورتين رشا روابح أستاذة محاضرة بجامعة الجزائر وصاحبة مشاركات دولية في مؤسسات بحثية، وشفيقة وعيل خريجة الجامعة الأميركية في بيروت وعضو فريق بحثي بجامعة نيويورك أبو ظبي.

في كلمته الافتتاحية قال منسّق المخبر الدكتور الطيّب بلعدل أنّ هذه الندوة هي رحلة عجيبة يختلط فيها الماضي بالحاضر والظاهر بالغائب، وتحاول أن تسترجع أولئك الأعلام، كالإمام ابن العربي الحاتمي الأكبر، والإمام ابن الفارض، ونحاول أن نعرّج من خلالها في الفتوحات وفي كلّ المتون الصوفية المتاحة لكلّ واحد منّا، وفي كلمته الترحيبية يرى رئيس المخبر وعميد كلية الآداب مسعود عبد الوهاب على أنّ العمل على الخطاب الصوفي دراسةً وتشريحًا يتطلّب التزوّد بآليات قرائية وبحثية قد لا تكون متاحة للجميع لاعتبارات عدّة متعلقة ببنية النّص الصوفي المتراوحة دلالته بين ثنائية الباطن والوجود، إضافة إلى بنيته المزدوجة في تمظهراته الدينية والأدبية، وأشار إلى إشكالية اللغة التي تشكّل الجانب العويص فيه، فبرأيه أنّ أكثر ما يثير الخطاب الصوفي من جدل هو جدل اللغة التي تمتاز بخصوصية منفردة.


الباحثة شفيقة وعيل في محاضرتها "أنطولوجيا اللغة الصوفية: لغة التجربة أم تجربة اللغة"، تناولت اللغة والتجربة في التصوّف، فالإشكالية الحقيقية برأيها في التعاطي مع النصّ الصوفي هو في فهم علاقة اللغة بالتجربة، وتتساءل عن اللغة التي تبدو مكثّفة وغامضة، فهل هي معنى محاولة لجلب الانتباه، أو محاولة لقول شيء لا يُقال، محاولة للتميّز خارج النصّ، الخروج عن سلطة المجتمع، من
 سلطة اللغة أم ماذا تحديدا؟، وإذا كان الأمر كذلك فهل الصّوفي يجرّب في اللغة، أم يتحدّث بلغة التجربة المتعالية، وكيف يمكن أن نميّز بين تجربة تقول بلغتها، وبين نصّ يحاول أن يجرّب باللغة، وهو ما نجده منتشرًا في كثير من النصوص، خاصّة الأدبية ومنها الشعرية خاصّةً، والتي تحاول أن تتماهى مع التجربة الصوفية، فتستعمل مصطلحاتها وأساليبها وبعض أفكارها، وأسماء أعلامها، وهي ترى أنّ هناك سهولة كبيرة واسترسال في وصف أي نصّ بالنصّ الصوفي، فتتساءل، إلى أيّ مدى يكون هذا الوصف دقيقا، وكيف يمكن أن نميّز بين تجربة صوفية وبين نصّ يحاول أن يجرّب باستعمال لغة التصوّف؟

تقول أنّ الذي يستدعي سؤال اللغة والتصوّف هو ذلك السّعي إلى ابتكار نموذج جديد للكتابة الشعرية، والأدبية على العموم، كتابة تحاول أن تكون صوفية بشكل ما، وطرح نقديّ يحاول أن يصوّف أيّ نصّ يستعمل استعراضَ مصطلحاتٍ وأساليب وأفكار صوفيّة، إمّا بغير قصد بسبب التراكم، أو بقصد الدخول فيما يسمى بموجة التصوّف بوصفه ميراثا عالميا، وتعود الدكتورة إلى سيرورة الأدب العربي وتتساءل "متى وصلنا إلى الحدّ الذي صرنا نقول فيه عن أيّ نصّ هذا نصّ صوفي؟، هل كانت النصوص الصوفية القديمة تلتبس مع النصوص الشعرية أم لا؟"

عرضت الدكتورة المتنبي كنموذج بوصفه علمًا كبيرا ومدخلًا للتصور للقضية، فتقول أنّ المتنبي استعمل عبارات الصوفية وأساليبهم ولغتهم لكن لم يقل أحدٌ من النقّاد أن المتنبي صوفيّ، بل قالوا إنّه استعار من الصّوفية أساليبهم ولغتهم في استدلالٍ على قدرته على التصرّف في اللغة، ما الذي جعل النقّاد لا يقولون عنه أنّه صوفيّ ولا عن تجربته صوفيّة، وتضيف "سيرة الرجل لم تدلّ على أنّه صوفي، ثمّ إن كان هو ليس صوفيا لماذا لم يُحكم على نصوصه أنّها صوفية، لأن استعارات المصطلحات والأساليب ببساطة فيما يبدو لم تكن تدلّ على صوفيّة النّص، الذي كان يدلّ على صوفية النصّ هو التجربة، وليست اللغة التي تدجج في النّص، ولأنّ الصورة وحدها دون فكرة لا تنتج نصّا صوفيّا.

عن المتنبي واستعماله أسلوب المتصوّفة فتقول "إنها مناولات لغوية فنّية، وليست تجربة عرفانية"، وأنّ الآن الحداثة الشّعرية فتحت بالمجاز واسعا، وأن هذا منطلق من الجدلية بين التجربة الأدبية والتصوّف، خاصّة الشعر، لأن كليهما يقومان على أنطولوجيا المجاز، وهو الخط الرابط بين الإثنين.


تعود شفيقة وعيل إلى العلاقة بين التفكير واللغة، العلاقة التي أثارت جدلا فلسفيا، لكن السؤال الفعلي برأيها الذي نطرح اليوم هو عن فعل الإدراك لنفسه، فالغاية هي تلمّس اللغة بما هي تجربة إدراك للعالم لدى الصوفية وكيفية تمييز علاقة لغتهم بالتجربة المتعالية، تقول "كون اللغة نظاما تمثّليا يعني أنها تخلق بدائل لغوية عن العالم الخارجي، هناك عالمان، عالم في الخارج تعبّر عنه لغة هي نتاج تفاعل مسبق للإنسان بوصفه الفردي مع المجاز، وعالم مُسقط في أذهان المتكلّمين نفس اللغة بوصفهم مجتمعا لغويا"، وهذا يخالف الرؤية التي يطرحها هايدغر الذي يصف هذا الطرح بالتقليدي، ويقول أنّه لا يكون الكلام سوى الأداة التي يستخدمها الإنسان للتعبير عن اعتمال النفس ورؤية العالم، لكن الكلام برأيه هو أكثر من ذلك، هو متكلّم، لأن اللغة كينونة في ذاتها، وتتكلّم به، أيّ بالإنسان، فاللغة ليست أداة، هي كائن، يقول من خلال اكتشاف الإنسان للعالم، فكلّ منّا هو مسهم لحدّ ما في اكتشاف العالم وفي صنع هذه اللغة التي هي تتجلى فينا جميعا"،
وفي هذا السياق تستحضر ما قاله هايدغر "ينبغي الكفّ عن اعتبار الألفاظ أشياء قائمة في الأعيان وإعادة الألفاظ إلى الوجدانيّ الذي تصدر عنه"، وتتساءل "إذا كان المجازُ حالة أنطولوجية في اللغة والتجربة، كيف نميّز بين مجاز من التجربة الصوفية ومجاز ينهل من تجربة غير صوفية، مادام الرابط بين التصوّف وغيره هو المجاز، وترى بأنّ ما نراه في الساحة، خاصة النقدية، هو نوع من خبط العشواء، وأنّ كلّ نصّ فيه جبّة الحلّاج أو بئر سيدنا يوسف عليه السّلام، أو أيّ معنى أو اسم أو رمز صوفيّ، يقال ما هذه الصوفية التي في هذا النّص!!، وتقول أنّ المسألة أكبر من الحكم على استعمال المصطلح، تضيف "الذي أراه وبخصوص المتنبي، أنّ الأمر ينسحب على أيّ نصّ أدبيّ استعار التصوّف وأساليبه ولم يستند إلى رؤية الوجود،... ابن عربي نقول أنّه متصوّف لأنّ له رؤية كاملة، نحكم على ابن العربي بأنه صوفي لأنّ له تاريخا صوفيّا، له رؤية مكتملة صوفية، لأنّه أسّس لغةً تخصّه هو"، فالأمر إذن يحتاج إلى دائرة تصوّف، رؤية دينية أنطولوجية تعبق من التصوّف، وتنشئ لغتها الخاصة.

ترى بأنّه من حيث التصور الأنطولوجي، الألفاظ التي يستعملها الصوفي إلى لغة الحسّ لكن بحمولة أنطولوجية مختلفة، كأن يقول شيئا ولا يعني ما يعرفه الناس عنه، فالمعنى بحدّ ذاته عندهم ذو حمولة أنطولوجية غير متعيّنة حسيّا، لكن المتعيّن هو المدلول الموجود في الحسّ الذي ربطنا اللفظة به، واتفقنا على تسميته بها في نطاق سلطة الجماعة، وتقول "مادام صوفيّا فينبغي أن تقطع العلاقة بين الحسّي وبين ما عنده وأن تقول سأبحث عن المعنى الذي يريده لأنّه يستحيل أن يريد هذا المعنى، فنبحث عن الرسالة التي يقصدها"، بمعنى أنّ الألفاظ تمتلك حقيقة أخرى في معناها الصوفي وبذلك تصبح مجازية في معناها الحسّي.

تختم الباحثة شفيقة وعيل مداخلتها بالقول"على النّص أن يكون على الأسس الذي ذكرَتها، وهي النظر في المسار السلوكي على الصوفي المبدع، واستخراج رؤية وجود كليّة تنبثق من التصوّف، والبحث عن حركية المجاز بين مستويين صعودا ونزولًا، حتى نستطيع تمييز نوعية التجربة من تجربة أخرى".


أمّا المداخلة الثانية للدكتورة رشا روابح "عارف في مرآة عارف، عفيف الدين التلمساني قارئًا لابن العربي"، تقول رشا أنّ الدافع الأساسي لاختيار هذا الموضوع هو محاولة إخراج عفيف الدين التلمساني من عزلته التي طال أمدها في المجال التداولي العرفاني الجزائري، وإرجاعه إلى أرضه، فقد تلقّفه القوم من هنا ومن هناك وزهد فيه أهله من أهل الجزائر، فهو شخصية جزائرية تتميّز باستقلالية فكرية معرفية متفرّدة رغم تتلمذه المباشر للشيخ الأكبر ومجالسة مجلسه.


ترى رشا بأنّ البحث العرفاني يحظى اليوم بحيّز كبير من اهتمامات الباحثين، على اختلاف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم، وأنّ محي الدين بن العربي يتبوّأ الصدارة في هذا الاهتمام وهذا راجع لما قدّمه لهذا الحقل كمّا وكيفًا، حتى صار اليوم يشكل تخصصا قائمًا بذاته، فقد أُسست حول تراثه مؤسسات ومراكز أبحاث وجمعيات علمية تعتني بتراثه وتقام حوله سنويّا مؤتمرات علمية دولية، وأنّ هذه المكانة ليست جديدة وقد لازمته منذ حياته، لدرجة ابن تيمية رحمه الله يقسم تاريخ التصوّف إلى
 التصوّف ما قبل ابن عربي والتصوف ما بعد ابن عربي، ونجده يتقبّل إلى حدّ بعيد مقولات الصوفية للمرحلة الأولى ولا يكاد يكفّر صوفيّا باستثناء الحلّاج ومن كان على شاكلته، في حين نجده يكفّر بالجملة متصوّفة المرحلة الثانية وعلى رأسهم ابن سبعين وابن العربي وابن الفارض واستهدف بشكل خاص التلمساني، كما ترى أنّ هذا الاهتمام المتزايد الذي نشاهده اليوم بالتصوّف عموما وبالمدرسة الأكبرية بشكل خاص يعود إلى عدة أسباب على رأسها الاهتمام الفكري المعاصر بعالم اللغة والإشارات، وأيضا بالخطاب الإنساني الكوني وكذا البعد المعنوي والروحي في الإنسان، ويحظى ابن العربي بالاهتمام الأكبر كونه يختزل في تجربته الفكر العرفاني التي جسّدت مضامينه أهمّ ما تنشده الإنسانية اليوم ويشمل اهتمامها موضوع وحدة الإنسان، وحدة الدين، والاعتراف بالآخر وتجاوز فكرة الخلاص الفردي وحقوق المرأة ومركزية الإنسان وغيرها من القضايا المعاصرة التي تمخّضت عن حركة الحداثة، والتي وجدت الكثير من الإجابات التي يمكن وصفها إلى حدّ ما أنّها حاسمة في مجال التداول العرفاني، مع الكثير من التحفظ لأن هناك بعض القراءات التي تقرأ النصوص العرفانية مجتثة من سياقاتها أو بعبارة أخرى تريد أن تفصل بين الحقيقة والشريعة، وبين الظاهر والباطن وهذا ما أدّى إلى ظهور ما يسمّى بموضة التصوّف الفارغة من التشرّخ، وهذا برأيها أيضا ورم آخر لصق بالتصوّف يتطلّب استئصاله.

تمحورت إشكالية مداخلتها بسؤال أساسي مفاده "هل قراءة التلمساني لابن العربي قراءة بعين ابن العربي نفسه، يعني على طريقة أصحاب المناقب وكتابة المريدين عن شيوخهم، أم أنّها قراءة لابن العربي بعين التلمساني؟"، تقول رشا بأنّ ما يجيبنا عن هذا السؤال هو قراءة متأنّية لشرح فصوص الحكم بشكل خاص وكذلك الاطلاع على منهجية التلمساني عموما.

المحور الأول للمداخلة عرضته الدكتورة كنبذة حول الشيخ عفيف الدين التلمساني لأنه برأيها غير معروف مقارنة بالشيخ الأكبر، حيث ذكرت أهم محطات حياته بين تنقله إلى دمشق وآسيا الصغرى وبلاد الروم وخلوته فيها، وكذلك حضوره مجلس سماع كتاب الفتوحات المكية لابن العربي، والمحور الثاني قراءة التلمساني لابن العربي ومميزاتها ومميّزات مذهبه بشكل عام.

يعتبر التلمساني أنّ كلّ من ابن العربي والقونوي شيخان له، وقد بيّن القونوي مقدار الحظوة التي خصّ بها التلمساني من بين تلاميذه، حيث أوصى بكتبه كلّها له، تقول رشا "يلحظ قارئ العفيف أنّ النفري هو معلّمه الحقيقي، وإن لم يتمّ بينهما اللقاء غير أن نفَس المواقف النفرية سارٍ في جميع مؤلّفات عفيف الدين، فقد شكّل كتاب المواقف أساس المنظومة المعرفية والعرفانية للعفيف، حيث كان كثير الإحالة إلى مواقف النفري في مؤلفاته، بل كان يرجح كلام النفري على كلام ابن العربي وهو يشرح كلام ابن العربي في الفصوص، وكان يرى بأنّ ابن العربي هو خاتم الأولياء، وأن النفري مثل أويس القرني لم يعرّف الله الناس به كثيرا وأن كليهما كنز يُدفع بهما البلايا عن عباده".

كان العفيف بارعا في شرح أدقّ المتون العرفانية من طراز المواقف للنفري وفصوص الحكم لابن العربي وغيرها، له أيضا رسالة في علم العروض وله ديوان شعري وهو من أكثر كتبه حضوةً بالاهتمام إلى جانب شرحه لمنازل السائرين، حيث لقي ديوانه إعجابا وتقديرا أدبيا حتى من أشرس أعدائه، حيث يقول عنه الذّهبي "إنّه أحد زنادقة الصوفية وأمّا شعره ففي الذروة العليا من حيث البلاغة والبيان لا من حيث الإلحاد"، ويشبّه ابن تيمية ديوانه بلحم خنزير في طبق صيني.

وأشارت الدكتوره رشا إلى الكتابين الذين حُقِّقا للعفيف مؤخّرا في اسطنبول، كتاب "معاني الأسماء الإلهية" وكتاب "شرح الفاتحة وبعض سور البقرة"، وشرحه هذا كان بداية لمشروع تفسيري عرفاني ضخم لم يكتمل.


بالنسبة لمعارضيه، تقول رشا أنّ عفيف الدين التلمساني اُبتلي بالإنكار، شأنه شأن شيخه بن العربي، لكن بصورة أكبر لأنّه كانت له جرعة زائدة في الجرأة العرفانية، وفي طرح المسائل، وأوّل من تزعّم حملة الإنكار على عفيف التلمساني هو ابن تيمية، ثمّ كلّ من كفّر التلمساني أسّس كلامه على رأي ابن تيمية.

وعن مذهبه العرفاني وشرحه للفصوص تقول الدكتورة رشا روابح بأنّ التلمساني يتميّز بأصالة الطرح واستقلالية الفكر، حيث لم يكن أثناء شرحه للمتون العرفانية التي تناولها مجرد ناقل وشارح لمصطلحات صوفية بل كان ناقدا متمرّسا، وهذا ما نلمسه في شرحه للفصوص، حيث لم يكن يشرح كلّ الكتاب كغيره من الشُرح، اقتصر على شرح المطالب الغامضة في زمانه، وعلى المواضيع التي فيها رأي مخالف لرأي شيخه الأكبر، وقد أشار في شرحه بأنّه سيواصل شرح بعض المسائل والأمور قولا لا كتابةً حتى لا يُساء الأدب مع شيخه ابن العربي ومراعاة لمقامه، وهذا من تجليات الأدب الذي كان يتميّز به التلمساني، وتضيف أنّه أوّل من طرح فكرة الأسفار الأربعة في السير والسلوك، هذه الفكرة التي اشتهر بها فيما بعد الملا صدرا صدر المتألهين الشيرازي الذي ألّف كتابه المعروف "الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية"، وأنّها فكرة تلمسانية وليست شيرازية كما يروّج لها.

عن مذهب العفيف أيضا تقول رشا أنّه يقوم أساسا على مقولة الوحدة المطلقة وهذه الفكرة التي يُنتقَد عليها كثيرا، ففي كتابه مثلا "شرح الفاتحة" غالبا ما يتناول مسائل الوحدة والتعدّد في إطار الأسماء الإلهية، فهو يرى أن الوحدة المطلقة هي الأصل، لكن القرآن والسنّة بُنيا على أساس التعدّد مراعاة لعقول الناس، لأنّ الوحدة المطلقة تُعجز مدارك أغلب الناس، وقوله هذا مؤسّس على فكرة أخرى أيضا تميّز بها عفيف التلمساني وهي أنّ رؤيته ثلاثية للعرفان، علم وعرفان وتحقيق، وهي أطوار معرفية يقوم على أساسها تصنيف المسائل والخطابات العرفانية، وبسبب هذه الثلاثية اعتبر ابن تيمية ابن العربي أقرب محقّقي الصوفية للإسلام، واعتبر التلمساني أبعدهم.

العفيف يعتقد في نظريته التي تتأسّس على اسم الله الهادي، يصرّح بها في سياق تفسيره لقوله تعالى "اهدنا الصراط المستقيم"، أنّ كلّ الأسماء الإلهية تدور حول اسم الهادي، وأن الهداية تجري في كلّ شيء، وأن جميع أفعال الإنسان ترتكز على اسم من الأسماء الإلهية، هذه الرؤية المؤسّسة على مبدئين عرفانيين أساسيين لدى التلمساني ونجدهما أيضا عند غيره، لدى المدرسة الأكبرية بشكل خاص، ويصرح بها كذلك الأمير عبد القادر في مواقفه، وهي كلّ شيء في كلّ شيء، وأنّ كل اسم في كلّ اسم، وحدة مطلقة.

ما يميّز التلمساني حسب رأي الدكتورة رشا أنّه مع احترامه وتبجيله الكبير لشيخه ابن العربي غير أنّه لم يكن منبهرا به، ولم يقدّسه كما نلمح ذلك في رواد المدرسة الأكبرية، فقد كان موضوعيّا جدّا في تعامله مع شيخه، بل وكثيرا ما يعترض عليه، لكن بمنتهى الأدب اللفظي والمنهجي، فأحيانا يترك بعض المطالب الغامضة في الفصوص بدون توضيح ويقول "ولست أقول إن هذا الفصل يستغني عن البيان لكنّي لا أبيّنه مشافهةً أدبًا مع شيخي رضي الله عنه"، كما يعتقد العفيف على خلاف شيخه الأكبر وأتباع مدرسته بتعدّد ختم الأولياء، كما يختلف مع المدرسة الأكبرية في القول بوجود مرتبة وجودية متعلقة بالأعيان الثابتة، المرتبة البرزخية بين الوجود والعدم، عفيف الدين يفترض أنّه ليس بين الوجود والعدم واسطة، والعفيف وإن خالف الشيخ في بعض المواضع لكنّه قد وجّه كلام الشيخ وهذا لأدبه، فيقول "وهو عندي معذور، لأن أهل الفهم كلّهم عجزوا عن إدراكه".



تختم روابح مداخلتها بالقول "عفيف الدين التلمساني ظاهرة عرفانية لا بدّ أن نعيده إلى جزائريته، إلى أصله، يفترض أن تُكوّن فرق بحث حول عفيف الدين لأنه ليس مجرّد عارف، هو ينسب إلى المدرسة الأكبرية لكن له مذهب خاص، يمكن أن يكوّن مدرسة عرفانية مستقلة خاصّة به، والمؤسف أن لغته الرمزية والإشارية أبقت تجربته حبيسة مجال تداولي نخبوي ضيّق، ولم تخرج من هذا المجال، وتعذّر نشرها في نطاق واسع".



الأحد، 16 يناير 2022

مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة بجامعة الجلفة يناقش المنطق الضبابي

                      استضاف في عدده الأول الباحثة نور اليقين رحّال وشهد نقاشا حادّا وحضورا من كلّ التخصصات

مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة بجامعة الجلفة

  يناقش المنطق الضبابي

منير سعدي


  • د. الطيب بلعدل: نسعى من خلال هذه الندوات إلى كسر تلك الإشارات السلبية للعلوم الإنسانية والتصورات الساذجة على أنها بعيدة عن العلم والدقّة والتكنولوجيا.
  • د. عمر رتيمي: وجود المنطق الضبابي أو الغامض في اهتماماتنا ودراساتنا نعلو به على مخاوف اتخاذ القرار، ونسعى معه لتفادي الاضطراب والقلق من جهل الحاصل وسوء الحادث الطارئ.
  • عميد كلية الآداب د.عبد الوهاب مسعود: نلتزم بدعم النشاط العلمي والثقافي بالكلية وتوفير كل الإمكانيات والظروف التي يتطلبها العمل الجادّ والمحترف.
  • د. نور اليقين رحال غربي: مداخلات الحضور أحالتني إلى البحث في الموضوع من زوايا جديدة، أهمّها علاقة الضبابية بمصطلحات العلم الصوفي.

     - نظّم مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة التابع لكلية الآداب بجامعة زيان عاشور بالجلفة ندوة حوارية علمية بعنوان "تنازع أصول مفاهيم المنطق الضبابي بين العلم والفلسفة"، استضاف فيها الباحثة الدكتورة نور اليقين رحّال غربي من جامعة باتنة، وما ميّز هذه الندوة عن سابقاتها هو الحضور المتنوّع  والمختلف من طلبة وأساتذة من كلّ التخصصات، الأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والنفس والفيزياء والإعلام والرياضيات والإعلام الآلي والقانون وغيرها، والنقاش الحادّ الذي  لم تشهده كلية الآداب من قبل، ولعلّ السّبب يكمن في طبيعة موضوع الندوة الذي كان مختلفا وغير روتيني كما جرت العادة، وكذلك يُعنى بكلّ التخصصات ومن زوايا مختلفة، وهذا ما اتضح جليا من خلال النقاش المفتوح بعد المحاضرة.

بعد آيات من القرآن الكريم تلاها الأستاذ ثامر معمري إمام المسجد العتيق، استهلّ منشّط الجلسة افتتاحه لها بالتنويه بهذه المبادرة التي يشرف عليها المخبر، وبأنّها تؤسّس لمرحلة جديدة بعد قطيعة وغربة عرفتها التخصصات فيما بينها داخل الجامعة نفسها، وكانت بمثابة الجزر المتفرقة، وكان الحافز الذي أحيته هذه الرؤيا الجديدة للنشاطات العلمية والثقافية بكلية الآداب بادٍ على وجوه الحاضرين من مشرفين وضيوف.

-                   البشر في مجال معاملاتهم يحيط بهم اللون الرمادي من جميع الاتجاهات؛ لأن المعلومات غير كافية ولا تتسم بالدقة المطلوبة، ومع ذلك يستطيع هؤلاء الناس ابتكار الحلول لما يواجهونه من مشاكل ومواقف غير مسبوقة، وكذلك يمكنهم صنع القرارات رغم عدم الدقة ونقص المعلومات واحتمال ظهور ما لم يكن بالحسبان، فالإنسان في تفكيره اليومي يمكن أن يضع حلولاً تخالف الحلول التي يمكن أن يصل إليها عن طريق المنطق ثنائي القيم، الذي تكون قضاياه إمّا صادقة أو كاذبة ولا ثالث بينهما، ولعلّ هذا ما عبّر عنه أرسطو بأحد أبرز قوانينه وأكثرها إثارة للجدل في تاريخ المنطق وهو قانون الثالث المرفوع، ومفاده أنّ الشيء إما أن يكون أ أو ليس أ ولا ثالث بينهما، وقد نجد في الحلول المخالفة للقيم الثنائية الكثير من الإبداع لأنها تتناول العديد من الاحتمالات، ومن هنا جاء المنطق الضبابي على يد العالم الأمريكي- الإيراني الجنسية لطفي زادة، بثورة على الوضوح، القائم علي اللايقين، أيّ علي المنطقة الوسط بين الصدق والكذب أو بين الواحد والصفر، وسمح بوجود بدائل عديدة وليس بوجود بديلين فقط، فالعالم من حولنا ليس إمّا صوابا أو خطأ، وليس إما أبيضا أو أسودا، بل على العكس فإن العالم من حولنا يضم الخطأ والصواب ويضمّ الأسود والأبيض معًا، وما بينهما من درجات، ومن هنا كانت الثورة الكبرى على قانون الثالث المرفوع، والذي أدّى بدوره إلى كثير من المفارقات المنطقية يحاول المنطق الغائم أن يتجاوزها وذلك من خلال السماح بتدرّج القيم المتصل وليس بتعددها، فالدافع الأساسي إذن لظهور المنطق الغائم هو الحاجة إلى إطار مفهومي يمكن أن ينطبق على موضوعات اللايقين وعدم الدقة، فالمنطق الغائم هو منطق اللغات الطبيعية أو منطق الحياة اليومية المتسمة بالغموض وعدم الدقة واللايقين، في حين أن المنطق الكلاسيكي هو منطق اللغات المثالية الرمزية المتسمة بالدقة التامة، وهي لغات لا يمكن التحدث بها.

وإزاء هذا المنطق الضبابي أو منطق الضبابية كما أرادت ضيفة الندوة ترجمتها، الذي هو منهج للتفكير يماثل التفكير البشري طالما أنه يسمح بالقيم والاستدلالات التقريبية والبيانات الغامضة والناقصة حاول باحثو الذكاء الاصطناعي استخدام هذا النسق لتقديم إطار مفهومي ملائم لإدارة اللايقين وعدم الدقة في مجال تطبيقاتهم التكنولوجية، وتعتبر النظم هي أحد أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي استخدمت المنطق الغائم، ومن ثم ظهرت العديد من تقنيات النظم الخبيرة الغائمة التي تحاكي طريقة تفكير الخبراء البشريين في العديد من المجالات مثل الطب ، الجيولوجيا ، الصناعة ، التجارة ، العلوم العسكرية ،إدارة المعلومات ، تكنولوجيا الفضاء وغيرها، فالمنطق الضبابي إذن هو منطق التكنولوجيا المتقدمة، إنه منطق من أجل التطبيق العملي، فهو يهدف لجعل الآلة أكثر تفاعلية مع الإنسان.


استهلت الأستاذة نور اليقين رحال صاحبة كتاب "العوالم الموازية وتقارب الفيزياء بالفلسفة" محاضرتها بالتفصيل في تعريف المنطق الضبابي والتفكير التقريبي، ثم العودة إلى أصوله التاريخية والفلسفية في الحضارات الشرقية القديمة وفي مقولة الإمكان لأرسطو، وكذلك في التراث العربي الإسلامي وفي نظرية الحِجاج المعاصرة، كما تناولت الفرق

بين المنطق المتعدد القيم والمنطق الضبابي، وصولا إلى التناقضات والشكوك في التفكير المنطقي المعاصر، وهنا وقفت عند منطقيّين معاصرين حاولا تأطير العلم المعاصر ونقصد هنا الفيزياء الكوانتية ونظرية الكايوس، كما تطرقت في المحور الثاني من المحاضرة إلى توظيف المنطق الضبابي في الذكاء الاصطناعي، وهنا ذكرت أمثلة في الطب والأجهزة الالكترونية المنزلية والهواتف النقالة.. إلخ، وكذلك إلى إرهاصاته الأولى في الحضارة الإسلامية، وفي المحور الثالث من المحاضرة تناولت توسع تطبيقات المنطق الضبابي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتطرّقت إلى قصور الاحتمالات والإحصاء، أي المنهج الإحصائي في دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية، وكيف أنّ المنطق الضبابي يقدّم حلّا يتناسب مع هذه الظواهر، كما تناولت الالتباس في اللغة وضبابية الواقع، وقدّمت نماذجا في العلوم الإنسانية.

بعدها فتح النقاش حول الموضوع من طرف مؤطّري الندوة والحضور من أساتذة وطلبة وكان تنوّع المداخلات والأسئلة من تنوّع الحضور الذي انطلق من تخصصاته المختلفة العلمية والأدبية والإنسانية والاجتماعية، ليتناول المنشط الموضوع منطلقا من منطق الثالث المرفوع، وهو المنطق الذي حلّت به مشاكل فلسفية كبرى خاصة في تعريف الماهيات، ماهية الإنسان، الحيوان.. إلخ، والاختلافات الجوهرية بينها، والتي لا يمكن التمييز بينها إلا وفق هذا المنطق، هنا يطرح سؤالا حول ما إذا استخدمنا المنطق الضبابي في تحديد الماهيات فنحن بصدد إثبات أن الجماد قد يتكلم أو النبات يفكر، وما مدى صحة هذا الافتراض، وهل يمكن القول أن للمنطق التقليدي مجالاته وللمنطق الضبابي مجالاته، أم أن الثاني حلّ محلّ الأوّل، والمنطق التقليدي قد انتهى تماما من الوجود، حيث ترد الدكتورة نور اليقين " لا أعتقد أن المنطق الأرسطي ولّى وانتهى، له مجالات خاصة، والمنطق الضبابي له مجالات خاصة، مثله مثل ميكانيك نيوتن مثلا وميكانيك آينشتاين، لا يمكن أن نقول أن نظرية آنشتاين أسقطته، فمن داخل المنطق الأرسطي استطعنا أن ننتج المنطق الضبابي، فقط أنّه تعرض لانتقادات، والمنطق الضبابي هو منطق الواقع والحياة، والحياة ليست فيها دقّة كما ذكرت في الأمثلة، ففي الكثير من الأمور لا نحتاج إلى دقة، نحتاج فقط أن نتصرف ويكون موقفنا ضبابيا، وحاول المنطق الضبابي أن تكون الآلة تفكر كالإنسان، وتتخذ هذا القرار".

ويتطرق في سؤال آخر إلى بعض الأعمال الأدبية التي يختفي فيها المنطق التقليدي كروايات ألبير كامو وموراكامي في تفسير العواطف الإنسانية إلى منطق أكثر عبثيّة، بحيث صار الحب والكراهية والحنين وما إلى ذلك مشاعر نسبية تعتمد على الحاجة والظرف والسياق وليست عواطف ذات زخم تعاكس الحاجة والظرف والسياق، وصار الروائي أو الشاعر يعبر عن حبه بنسبة ويقابلها بحاجته بنسبة وسياق الحياة بنسبة ثم تتم عملية حسابية يقدّر فيها إمكانية نجاح أو استمرار العلاقة من عدمه، هنا فتح النقاش حول ما إذا كانت ضبابية إنسان القرن العشرين والحادي والعشرين شبيهة بضبابية  المسائل الرياضية المنطقية، وهل يعتبر مؤشرا جيدا لتطور المفاهيم الإنسانية أم خطيرا، وأسئلة أخرى دارت حول التعامل مع قضايا الإيمان بالمنطق الحاسم أو الترجيحي، وكذلك حول المعتزلة والمنزلة بين المنزلتين، وإذا ما كان الشخص مرتكب الكبيرة غير مؤمن وغير كافر حسب الأصول الاعتزالية، وهل نعتبر هذا بداية أو مقدمة لتأصيل منطق ترجيحي في تفسير النصوص المقدّسة، وفي جانب آخر يتساءل عمّا إذا كان استخدام المنطق الضبابي تعدّى توظيفه في الذكاء الصناعي إلى الذكاء البشري، وهنا يضرب مثالا باتجاه العالم الغربي نحو تعويم المسؤولية الأخلاقية للبشر كإفراز طبيعي لما بعد الحداثة، عندما نرى الاجتهاد القانوني في حسم قضية جريمة ما يعتمد على نفي المسؤولية الشخصية للمجرم وإلصاقها بالمؤثرات الخارجية (الشجرة الجينية للعائلة، المجتمع.. إلخ)، فصار حسم القضية نسبيا مثلما يتعامل الذكاء الصناعي مع مسألة رياضية، يطرح هنا سؤالا: أليس مبدأ الجزاء والعقاب مبدأ حاسم لا يمكن الاجتهاد فيه بتشديد أو تخفيف في حالة اجتماع الأدلة؟، وهنا يحيل السؤال الضيفة إلى الحديث في الجانب الأخلاقي.

من جهته يرى مسعود قايدي أستاذ الفيزياء وكاتب مقالات في تاريخ وفلسفة العلوم أن الإرهاصات الأولى للمنطق الضبابي كانت فلسفية وقديمة جدا، على أقل تقدير إلى فترة الجدل الذي كان محتدما بين الفلاسفة والمتكلّمين، وبقي خارج حدود الفيزيقا، والكشوفات العلمية هي من أخرجته إلى عالم الفيزيقا، وأن تطبيقات المنطق الضبابي لم تظهر إلا بعد أن تأسّست ميكانيكا الكم التي تقدّم تنبّؤات احتمالية.

ومن جهة أخرى يتساءل عن سبب الحاجة إلى الاشتغال بالظن والترجيح، وعم مشروعيّتهما، وعن سبب شيوع هذا النمط من التفكير، وعن مسوّغات استعماله، حيث يقول (يقول آينشتاين في معارضته للتأويل الفلسفي لميكانيكا الكم الذي وضعه الدنمركي نيلز بور: كل ما في الأمر أننا نجهل كل العوامل المؤثرة على سلوك "الجسيم ما دون الذري" لذلك نعطي تنبّؤات احتمالية"، مثل احتمال سقوط المطر في منطقة ما، ثم لا يصدق هذا التنبّؤ لعدم توفر معطيات كاملة لدى خبراء الطقس تسمح لهم بالتنبؤ بحالة الطقس بشكل يقيني، قد يعلمون أشياء وتغيب عنهم تفاصيل صغيرة تؤثر بشكل حاسم على صحة تنبؤاتهم، إذن أعتقد أن مسوّغات الاعتماد على هذا النمط من التفكير المنطقي (يقصد المنطق الضبابي) هو عدم الإحاطة بكل المعطيات وحجمها ضخم جدّا).

وهنا يذكّرنا بما قاله العالم لابلاص لصديقه الامبراطور نابليون ذات يوم "لو أنّنا عرفنا مواقع وسرعات كل جسيمات الكون في أحد الأوقات، ينبغي عندها أن تتيح لنا قوانين الفيزياء أن نتنبّأ بما ستكون عليه حالة الكون في الحاضر والماضي والمستقبل.

وفي محور توظيف المنطق الضبابي في الذكاء الاصطناعي وسباق الدول العظمى لامتلاك عدد كبير من الحواسيب الكمية يشير في سؤاله للضيفة إلى رواية "الأصل" للأميركي دان براون عام 2017، التي يتنبّأ فيها بتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر، ويقدم لنا شخصية عالم الرياضيات  المبرمج " إدموند كيرش" الذي يقْدم على برمجة تطبيق كوانتي ذكي قادر على التلاعب بالبشر والسيطرة عليهم.

تناول النقاش أيضا المنطق واليومي،  وعن حضور المنطق في المجتمع  والمدرسة الجزائرية، وأسباب تراجع مكانته ودوره، وانتقدت آخر تغيّر طرأ على المقرر الدراسي للمرحلة الثانوية حيث تمّ التخلّي عن المنطق الذي كان يعدّ الدرس الأوّل في مادة الرياضيات، وتساءلت "كيف يتفاعل التلميذ ويحل المعادلات والمتراجحات التي أصولها منطقية وتعتمد على الروابط المنطقية، وقد حُذف المنطق ونظرية المجموعات التي هي أساس الرياضيات المعاصرة، وحذفت أنماط البرهان، فكيف يواجه العالم ويدخل الجامعة بدون دراية بالمنطق"، وأرجعت جزءً مهمّا من أسباب ذلك إلى تبعية المنظومة التربوية، لتنتقل إلى الإجابة على سؤال سبب تأكيدها في محاضرتها على ابن حزم الذي دعا إلى التعددية، وعلى الفقهاء المناطقة من المغرب الإسلامي الكبير، وكذلك النقد الذي وجّهته إلى الجابري حول التراتبية التي وضعها والتي تستدعي إعادة النظر فيها "العقل البرهاني والعقل البياني، وأنّ العقل البياني مبني على الظن"، وأن العلم هو المبني على الظن على حدّ قولها.

وفي حديثه لـ "الحوار" يقول الدكتور عمر رتيمي، أستاذ بكلية الآداب "عبثا ثقيلا يتوجب علينا النهوض به كاملا"، هي العبارة العميقة التي مازالت تنحت فصوص العقل العربي مؤمنا بحقيقتها وطبيعة مآلاتها ومخرجاتها، إذ لا غرو أن ما نحن فيه من انتساب للعلم أو من نشاط يصحبه إنما هو من قبيل الواصف دون المنتسب أو المنتمي، هذه

وغيرها من جميل الأحاسيس والمشاعر ومن حزين التألم والأسى الذي خلّفته جلسة علميّة رائقة بامتياز أشرف على إدارتها أساتذة أفاضل وقامات علمية سامقة حاورت بواعث التحدي ونوازع العلوم البينية، جعلت من الواحد مزيجا ومن الخليط فريدا (من فلسفة العلوم وعلوم اللغة إلى علم الحواسيب والبرمجيات وفيزياء الحركة والكم مرورا بجسر الإعلام والتواصل)، كلها انصهرت في بوتقة واحدة صاغتها الندوة العلمية بأحلى صياغات العلم والتقصي، والبحث والاستقراء، قدّمت من خلالها الأستاذة الفاضلة هذه المحاضرة، المنطق الضبابي أو منطق الضبابية كما أرادت الباحثة ترجمتها عدولا عن (المنطق الغامض) كما يعرّفه أهل العلوم التقنية والميتافيزيقا، بين فواصل حدية تستوفي حقيقته وأعلامه، وإجراءاته وأدواته، وبين نقد لفارط سابق أغفل في مجمل تفاصيله ودقائقه ما أراد البحث أن يجيب عليه ويتجاوزه، فمن مقولات المنطق الأرسطي والرياضي وغيرها القائمة على الصدق والكذب (0 أو1) إلى منطق يتحدى بآفاقه وتطلعاته حدود العجز ومواقف الحيرة، ويضيف "لقد استثار الباحثة باحثان جادّان في درجة اهتماماتها وعلوّ كعبها في هذا الشأن، فصال بها الإعلامي المتمرّس منير سعدي بين سؤال يستوقفها وآخر يجبرها على التطواف بأفكارها ومنجزات بحوثها السّابقة، وجال بها الأستاذ الباحث مسعود قايدي بين إضافة راقية وتثبيت محكم، ماهو المنطق الضبابي؟ ولم استجلبته الحيرة العلمية؟ من كان وراء وجوده؟ ومن هو لطفي زادة؟ وما تكوينه وخلفيته؟ وهل يمكن أن يكون هذا المنطق بديلا عن غيره من المنطقيات، وكيف لنا أن نستفيد من أدواته وإجراءاته؟ وأين نحنُ ممّا قيل فيه وعنه ضمن حقول المعارف الأخرى؟، هذه وغيرها من التساؤلات البانية والإشكاليات المؤسسة لعلم جعل الحاضر منا يستقي عبرا عديدة، وأقل ما يمكن أن يقال أنّ وجود المنطق الضبابي أو الغامض في اهتماماتنا ودراساتنا نعلو به على مخاوف اتخاذ القرار، ونسعى معه لتفادي الاضطراب والقلق من جهل الحاصل وسوء الحادث الطارئ، وأنّه لم يعد في الحسبان بعدئذ (من تمنطق تزندق) بل صار الأمر محكوما إلى (من تشرع وتمنطق فقد تحقق).


وفي كلمته للحوار يقول مسعود قايدي:" الندوة كانت قفزة كمومية تشبه تلك التي تقوم بها الإلكترونات من مدار أدنى إلى مدار أعلى، لتمتص طاقة، اللقاء مدّ جسورا إلى عدد من التخصصات، كالفيزياء التي تعتبر (ميكانيكا الكم) أول من (مَنطَقت) للايقين أو الريبة كما يحلو للبعض تسميتها، والإعلام الآلي التي استغلت هذا المنطق في مجال الحواسيب الكوانتية.

أمّا سالم بن عبد الحفيظ خرّيج طاقوية يقول: "تصلني دعوة من مقهى المخبر لكلية الآداب واللغات والفنون، وأنا كطالب في كلية العلوم والتكنولوجيا اختصاص طاقوية أتساءل وأنا في طريقي إلى الحضور، ماذا سأستفيد من هذه الندوة وأنا أدرس هذا الاختصاص، ومع بداية الندوة انبهرت بوجود ترابط عميق بين الفلسلفة والعلم، كما خلصتُ إلى أنّ المنطق الضبابي هو أساس لكلّ العلوم سواء كانت في مجال الميكانيك على مبدأ الفوضى، أو الرياضيات في الاحتمالات، والاكترونيك في الأجهزة الكهرومنزلية والهواتف الذكية والروبوتات، وغيرها من المجالات العلمية، حبّذا لو تستمرّ مثل هذه الندوات".

ما يميّز تجربة ضيفة مقهى المخبر في عدده الأول الدكتورة نور اليقين رحال هو دراستها لتخصصات مختلفة "فلسفة المنطق وفلسفة العلوم وعلم النفس العيادي والالكترونيك والإعلام الآلي " ولعلّ هذا ما جعل إسهاماتها مختلفة لقدرتها على تناول إشكاليات علمية وفلسفية من زوايا متعددة يمكن الربط بينها، وأطّرت نفسها من خلال انتمائها لكلّ أشكال العلم الذي غاب في تصورات الجامعة، و
في حديثها للحوار تقول "ثمّة جوانب عديدة لم نتطرق إليها بالتفصيل بسبب ضيق الوقت، كالذكاء الاصطناعي، فهو إشكال علمي وفلسفي عالق، فنحن أمام مفهوم زئبقي بل أكثر من ذلك مفهوم تحدّى قدرات الإنسان العلمية والعقلية، لأنه إذا استطعنا أن نحدده في لحظة ما تتسارع المعرفة وهي خاصية من خصائص الآلة فتتسارع المعرفة فتتغير هذه التحليلات"،  وعن الإضافة التي قدّمتها لها الندوة تقول " هناك زوايا فتحت من خلال المناقشة ، وكانت قيّمة مثل علاقة الضبابية بمصطلحات العلم الصوفي، كذلك المنطق واليومي فهو ما يِؤرق كل باحث وكل أكاديمي ينشد التغيير والإصلاح، ويبقى التفكير الحل الأنسب للتغيير"، وعن رأيها في التنظيم والحضور تضيف " الحضور كان لصفوة الصفوة، وجمَع تخصصات متعددة ومتنوعة، وفي اعتقادي هذا أحد أسباب نجاح الندوة، إذ كانت مداخلاتهم ملمّة بالموضوع، وآسفة أنني لم أجب على بعضها بسبب الالتزام بالوقت، كذلك الطلبة الكرام لاحظت انصاتهم وتأدّبهم، فالندوة كانت من أجلهم ولهم، التنظيم كان محكما، راعى الالتزام بالوقت وتجاوز ذلك البروتوكول المملّ الذي يسبق الندوات غالبا، وهذه المبادرة تحسب لهم، سعدت كثيرا بكل الوجوه الكريمة والطيبة، وبأهلنا في الجلفة.
كان الأساتذة المشرفون على المخبر والإداريون بمثابة خلية نحل عملت بكل دقة واحترافية وتفان لإنجاح الندوة، وهذا الذي كان، ندوة أولى كانت كافية لإظهار الملامح الحقيقية لكلية الآداب في العمل الجاد والمحترف، ويؤكد عميد الكلية الدكتور عبد الوهاب مسعود بأنه كان وسيظل في خدمة النشاطات العلمية والثقافية وتوفير كل الإمكانيات التي تجعل من كلية الأدب نقطة التقاء مختلف التخصصات، ومن جهته فريق مخبر قضايا الأدب والثقافة الشعبية والترجمة أكّد على السعي لأن يكون منصة علمية في خدمة الباحثين والمتعطشين للوعي والمعرفة،
وفي السياق نفسه أعلن الدكتور الطيب بلعدل في كلمته الاختتامية أن هذا النشاط يعتبر العدد رقم 01 للمخبر الذي يعتزم عقد ندوات أخرى تستضيف نخبة من الباحثين في مختلف التخصصات.




































                                  




حوار مع الكاتب والمترجم ومُؤسِّس "مجتمع رديف" الأستاذ يونس بن عمارة على جريدة الحوار ~ْ

الكاتب والمترجم ومُؤسِّس "مجتمع رديف" الأستاذ يونس بن عمارة للحـوار: غاية مشروع "مجتمع رديف" الأساسيّة إضفاء قيمة اقت...